فصل: الآية رقم ‏(‏49 ‏:‏ 52‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 سورة الزمر

‏{‏روى النسائي عن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم، وكان صلى اللّه عليه وسلم يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر ‏"‏أخرجه النسائي من حديث عائشة رضي اللّه عنها‏"‏‏.‏

بسم اللّه الرحمن الرحيم

 الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 4‏)‏

‏{‏ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ‏.‏ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ‏.‏ ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ‏.‏ لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار ‏}‏

يخبر تعالى أن تنزيل هذا الكتاب وهو القرآن العظيم من عنده تبارك وتعالى، فهو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك كما قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وإنه لتنزيل رب العالمين‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تنزيل من حكيم حميد‏}‏، وقال ها هنا ‏{‏تنزيل الكتاب من اللّه العزيز‏}‏ أي المنيع الجناب ‏{‏الحكيم‏}‏ أي في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، ‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد اللّه مخلصاً له الدين‏}‏ أي فاعبد اللّه وحده لا شريك له وادع الخلق إلى ذلك، وأعلمهم أنه لا تصلح العبادة إلا للّه وحده، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا للّه الدين الخالص‏}‏ أي لا يقبل من العمل إلا ما أخلص فيه العامل للّه وحده لا شريك له، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏ألا للّه الدين الخالص‏}‏‏:‏ شهادة أن لا إله إلا اللّه، ثم أخبر عزَّ وجلَّ عن عباد الأصنام من المشركين أنهم يقولون‏:‏ ‏{‏ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللّه زلفى‏}‏ أي إنما يحملهم على عبادتهم لهم أنهم عمدوا إلى أصنام، اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم، فعبدوا تلك الصور تنزيلاً لذلك منزلة عبادتهم الملائكة، ليشفعوا لهم عند اللّه تعالى، فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به، قال قتادة والسدي‏:‏ ‏{‏إلا ليقربونا إلى اللّه زلفى‏}‏ أي ليشفعوا لنا ويقربونا عنده منزلة، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم‏:‏ ‏(‏لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك‏)‏ وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم الرسل صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين بردها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة للّه وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم، لم يأذن اللّه فيه، ولا رضي به، بل أبغضه ونهى عنه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطاغوت‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون‏}‏، وأخبر أن الملائكة التي في السماوات، كلهم عبد خاضعون للّه، لا يشفعون عند إلا بإذنه لمن ارتضى، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم، يشفعون عندهم بغير إذنهم ‏{‏فلا تضربوا للّه الأمثال‏}‏ تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً‏.‏

وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏إن اللّه يحكم بينهم‏}‏ أي يوم القيامة ‏{‏فيما هم فيه يختلفون‏}‏ أي سيفصل بين الخلائق يوم معادهم، ويجزي كل عامل بعمله، ‏{‏إن اللّه لا يهدي من هو كاذب كفار‏}‏ أي لا يرشد إلى الهداية، من قصده الكذب والافتراء على اللّه تعالى، وقلبه كافر بآياته وحججه وبراهينه؛ ثم بيَّن تعالى أنه لا ولد له كما يزعمه جهلة المشركين في الملائكة، والمعاندون من اليهود والنصارى في العزير وعيسى، فقال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏لو أراد اللّه أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء‏}‏ أي لكان الأمر على خلاف ما يزعمون، وهذا شرط لا يلزم وقوعه ولا جوازه بل هو محال، وإنما قصد تجهيلهم فيما ادعوه وزعموه كما قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين‏}‏، فهذا من باب الشرط، ويجوز تعليق الشرط على المستحيل لمقصد المتكلم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحانه هو اللّه الواحد القهار‏}‏ أي تعالى وتنّزه وتقدس، عن أن

يكون له ولد، فإنه الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي قهر الأشياء، فدانت له وذلت وخضعت، تبارك وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً‏.‏

 الآية رقم ‏(‏5 ‏:‏ 6‏)‏

‏{‏ خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار ‏.‏ خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون ‏}‏

يخبر تعالى أنه الخالق لما في السماوات والأرض، وما بين ذلك من الأشياء، وبأنه مالك الملك المتصرف فيه يقلّب ليله ونهاره ‏{‏يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل‏}‏ أي سخرهما يجريان متعاقبين، لا يفترقان، كل منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً‏}‏، وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وسخر الشمس والقمر كلٌ يجري لأجلٍ مسمى‏}‏ أي إلى مدة معلومة عند اللّه تعالى، ثم ينقضي يوم القيامة ‏{‏ألا هو العزيز الغفار‏}‏ أي مع عزته وعظمته وكبريائه، هو غفار لمن عصاه ثم تاب وأناب إليه، وقوله جلت عظمته‏:‏ ‏{‏خلقكم من نفس واحدة‏}‏ أي خلقكم مع اختلاف أجناسكم وأصنافكم وألسنتكم وألوانكم ‏{‏من نفس واحدة‏}‏ وهو آدم عليه الصلاة والسلام ‏{‏ثم جعل منها زوجها‏}‏ وهي حواء عليها السلام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج‏}‏ أي وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج، وهي المذكورة في سورة الأنعام من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏يخلقكم في بطون أمهاتكم‏}‏ أي قدّركم في بطون أمهاتكم ‏{‏خلقاً من بعد خلق‏}‏ يكون أحدكم أولاً نطفة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة، ثم يخلق فيكون لحماً وعظماً وعصباً وعروقاً، وينفخ فيه الروح فيصير خلقاً آخر ‏{‏فتبارك اللّه أحسن الخالقين‏}‏، وقوله جلَّ وعلا‏:‏ ‏{‏في ظلمات ثلاث‏}‏ يعني ظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، وظلمة البطن، كذا قال ابن عباس ومجاهد وهو قول عكرمة والضحّاك والسدي وقتادة وابن زيد وغيرهم ‏.‏ وقوله جلَّ جلاله‏:‏ ‏{‏ذلكم اللّه ربكم‏}‏ أي هذا الذي خلقكم وخلق آباءكم، هو الرب له الملك والتصرف في جميع ذلك ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ أي الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له ‏{‏فأنّى تصرفون‏}‏‏؟‏ أي فكيف تعبدون معه غيره‏؟‏ وأين يذهب بعقولكم‏؟‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏7 ‏:‏ 8‏)‏

‏{‏ إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور ‏.‏ وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن نفسه جلَّ وعلا أنه الغني عما سواه من المخلوقات، كما قال موسى عليه السلام لقومه‏:‏ ‏{‏وإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن اللّه لغني حميد‏}‏، وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً‏)‏ ‏"‏أخرجه مسلم في صحيحه وهو جزء من حديث قدسي طويل‏"‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يرضى لعباده الكفر‏}‏ أي لا يحبه ولا يأمر به، ‏{‏وإن تشكروا يرضه لكم‏}‏ أي يحبه لكم، ويزدكم من فضله، ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أُخرى‏}‏ أي لا تحمل نفس عن نفس شيئاً، بل كلٌ مطالب بأمر نفسه، ‏{‏ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون * إنه عليم بذات الصدور‏}‏ أي فلا تخفى

عليه خافية، وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه‏}‏ أي عند الحاجة يتضرع ويستغيث باللّه وحده لا شريك له، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منبياً إليه‏}‏ أي عند الحاجة يتضرع ويشتغيث باللّه وحده لا شريك له، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا مسكم الضر في البحر ضلّ من تدعون إلا إياه، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً‏}‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل‏}‏ أي في حال الرفاهية، ينسى ذلك الدعاء والتضرع، كما قال جلَّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضره مرَّ كأن لم يدعنا إلى ضر مسه‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعل للّه أنداداً ليضل عن سبيله‏}‏ أي في حال العافية يشرك باللّه ويجعل له أنداداً، ‏{‏قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار‏}‏ أي قل لمن هذه حالته وطريقته ومسلكه ‏{‏تمتع بكفرك قليلاً‏}‏ وهو تهديد شديد، ووعيد أكيد، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏9‏)‏

‏{‏ أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ أمن هذه صفته، كمن أشرك باللّه وجعل له أنداداً‏؟‏ لا يستوون عند اللّه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ليسوا سواء‏}‏، وقال تعالى ههنا‏:‏ ‏{‏أم من هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً‏}‏ أخرج جوبير عن ابن عباس قال‏:‏ نزلت في ابن مسعود وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة أي في حال سجوده، وفي حال قيامه، ولهذا استدل بهذه الآية، من ذهب إلى أن القنوت هو الخشوع في الصلاة، ليس هو القيام وحده، قال ابن مسعود‏:‏ ‏)‏القانت المطيع للّه عزَّ وجلَّ، ولرسوله صلى اللّه عليه وسلم‏(‏، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏آناء الليل‏}‏ جوف الليل وهو قول الحسن والسدي وابن زيد ، وقال الثوري‏:‏ بلغنا أن ذلك بين المغرب والعشاء، وقال الحسن وقتادة‏:‏ ‏{‏آناء الليل‏}‏ أوله وأوسطه وآخره، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه‏}‏ أي في حال عبادته خائف راج، ولا بد في العبادة من هذا وهذا، وأن يكون الخوف في مدة الحياة هو الغالب، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه‏}‏ فإذا كان عند الاحتضار، فليكن الرجاء هو الغالب عليه، كما قال أنَس رضي اللّه عنه‏:‏ دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على رجل وهو في الموت فقال له‏:‏ ‏(‏كيف تجدك‏)‏‏؟‏ فقال‏:‏ أرجو وأخاف، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يجتمعان في قلب عبدٍ في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه اللّه عزَّ وجلَّ الذي يرجو، وأمنّه الذي يخافه‏)‏ ‏"‏رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه‏"‏‏.‏ وعن يحيى البكاء أنه سمع ابن عمر رضي اللّه عنهما يقرأ‏:‏ ‏{‏أم من هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه‏}‏ قال ابن عمر‏:‏ ‏(‏ذاك عثمان بن عفان رضي اللّه عنه‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏وإنما قال ابن عمر رضي اللّه عنهما ذلك، لكثرة صلاة عثمان رضي اللّه عنه بالليل وقراءته، حتى إنه ربما قرأ القرآن في ركعة، قال الشاعر‏:‏

‏(‏يقطّع الليل تسبيحاً وقرآناً‏)‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون‏}‏‏؟‏ أي هل يستوي هذا، والذي قبله ممن جعل للّه أنداداً ليضل عن سبيله‏؟‏ ‏{‏إنما يتذكر أولوا الألباب‏}‏ أي إنما يعلم الفرق بين هذا وهذا، من له لب، وهو العقل، واللّه أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏10 ‏:‏ 12‏)‏

‏{‏ قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ‏.‏ قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ‏.‏ وأمرت لأن أكون أول المسلمين ‏}‏

يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين، بالاستمرار على طاعته وتقواه ‏{‏قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة‏}‏ أي لمن أحسن العمل في هذه الدنيا، حسنة في دنياهم وأخراهم، ‏{‏وأرض اللّه واسعة‏}‏ قال مجاهد‏:‏ فهاجروا فيها وجاهدوا، واعتزلوا الأوثان، وقال‏:‏ إذا دعيتم إلى معصية فاهربوا، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏ألم تكن أرض اللّه واسعة فتهاجروا فيها‏}‏‏؟‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب‏}‏ قال الأوزاعي‏:‏ ليس يوزن لهم ولا يكال، إنما يغرف لهم غرفاً، وقال ابن جريج‏:‏ بلغني أنه لا يحسب عليهم ثواب عملهم قط، ولكن يزادون على ذلك، وقال السدي‏:‏ يعني في الجنة، وقوله‏:‏ ‏{‏قل إني أمرت أن أعبد اللّه مخلصاً له الدين‏}‏ أي إنما أمرت بإخلاص العبادة للّه وحده لا شريك له، ‏{‏وأمرت لأن أكون أول المسلمين‏}‏ قال السدي‏:‏ يعني من أمته صلى اللّه عليه وسلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏13 ‏:‏ 16‏)‏

‏{‏ قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ‏.‏ قل الله أعبد مخلصا له ديني ‏.‏ فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين ‏.‏ لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ قل يا محمد وأنت رسول اللّه ‏{‏إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم‏}‏ وهو يوم القيامة، ومعناه التعريض بغيره، بطريق الأولى والأحرى، ‏{‏قل اللّه أعبد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه‏}‏، وهذا أيضاً تهديد، وتبرٍّ منهم، ‏{‏قل إن الخاسرين‏}‏ أي إنما الخاسرون كل الخسران ‏{‏الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة‏}‏ أي تفارقوا فلا التقاء لهم أبداً، وسواء ذهب أهلوهم إلى الجنة، وذهبوا هم إلى النار، أو أن الجميع أسكنوا النار، ولكن لا اجتماع لهم ولا سرور ‏{‏ألا ذلك هو الخسران المبين‏}‏ أي هذا هو الخسران المبين، الظاهر الواضح، ثم وصف حالهم في النار فقال‏:‏ ‏{‏لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل‏}‏، كما قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون‏}‏ وقوله جلَّ جلاله‏:‏ ‏{‏ذلك يخوف اللّه به عباده‏}‏ أي إنما يقص هذا ليخوف به عباده، لينزجروا عن المحارم والمآثم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا عبادِ فاتقون‏}‏ أي اخشوا بأسي وسطوتي وعذابي ونقمتي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏17 ‏:‏ 18‏)‏

‏{‏ والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد ‏.‏ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ‏}‏

قال زيد بن أسلم‏:‏ نزلت الآية في زيد بن عمرو و أبي ذر و سلمان الفارسي رضي اللّه تعالى عنهم، والصحيح أنها شاملة لهم ولغيرهم، ممن اجتنب عبادة الأوثان، وأناب إلى عبادة الرحمن، فهؤلاء لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ثم قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏فبشر عبادِ * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه‏}‏ أي يفهمونه ويعملون بما فيه كقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها‏}‏ ‏{‏أولئك الذين هداهم اللّه‏}‏ أي المتصفون بهذه الصفة هم الذين هداهم اللّه في الدنيا والآخرة، ‏{‏وأولئك هم أولوا الألباب‏}‏ أي ذوو العقول الصحيحة، والفطر المستقيمة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏19 ‏:‏ 20‏)‏

‏{‏ أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار ‏.‏ لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ أفمن كتب اللّه أنه شقي هل تقدر أن تنقذه مما هو فيه من الضلال والهلاك‏؟‏ أي لا يهديه أحد من بعد اللّه، ثم أخبر اللّه عزَّ وجلَّ عن عباده السعداء أن لهم غرفاً في الجنة، وهي القصور الشاهقة، ‏{‏من فوقها غرف مبنية‏}‏ طباق فوق طباق، مبنيات محكمات، مزخرفات عاليات، وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏إن في الجنة لغرفاً يرى بطونها من ظهورها، وظهورها من بطونها‏)‏ فقال أعرابي‏:‏ لمن هي يا رسول اللّه‏؟‏ قال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وصلى بالليل والناس نيام‏)‏ ‏"‏أخرجه الترمذي وقال‏:‏ حسن غريب‏"‏، وروى الإمام أحمد، عن سهل بن سعد رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة في الجنة كما تراءون الكوكب في أفق السماء‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد ورواه الشيخان بلفظ‏:‏ ‏(‏كما تراءون الكوكب الذي في الأفق الشرقي أو الغربي‏"‏‏.‏ وروى الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قلنا يا رسول اللّه‏!‏ إنا إذا رأيناك رقت قلوبنا، وكنا من أهل الآخرة، فإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا، وشممنا النساء والأولاد، قال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو أنكم تكونون على كل حال، على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء اللّه عزَّ وجلَّ بقوم يذنبون كي يغفر لهم، قلنا‏:‏ يا رسول اللّه حدثنا عن الجنة ما بناؤها‏؟‏ قال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لبنة ذهب ولبنة فضة، وبلاطها المسك الأذفر، وحصاؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من لم يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، ثلاثة لا ترد دعوتهم‏:‏ الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم تحمل على الغمام، وتفتح لها أبواب السماوات، ويقول الرب تبارك وتعالى‏:‏ وعزتي لأنصرك ولو بعد حين‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد، وروى الترمذي وابن ماجه بعضه‏"‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تجري من تحتها الأنهار‏}‏ أي تسلك الأنهار بين خلال ذلك كما شاءوا، واين أرادوا ‏{‏وعد اللّه‏}‏ أي هذا الذي ذكرناه وعد وعده اللّه عباده المؤمنين ‏{‏إن اللّه لا يخلف الميعاد‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏21 ‏:‏ 22‏)‏

‏{‏ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ‏.‏ أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين ‏}‏

يخبر تعالى أن أصل الماء في الأرض من السماء، كما قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وأنزلنا من السماء ماء طهوراً‏}‏ فإذا أنزل الماء من السماء كَمَن في الأرض، ثم يصرفه تعالى في أجزاء الأرض كما يشاء، وينبعه عيوناً ما بين صغار وكبار، بحسب الحاجة إليها، ولهذا قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏فسلكه ينابيع في الأرض‏}‏، عن ابن عباس قال‏:‏ ليس في الأرض ماء إلا نزل من السماء، ولكن عروق الأرض تغيره، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسلكه ينابيع في الأرض‏}‏ فمن سره أن يعود الملح عذباً فليصعده ‏"‏رواه ابن أبي حاتم‏"‏، وهكذا قال الشعبي وسعيد بن جبير أن كل ماء في الأرض فأصله من السماء ، وقال سعيد بن جبير‏:‏ أصله من الثلج يعني أن الثلج يتراكم على الجبال، فيسكن في قرارها، فتنبع العيون من أسافلها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه‏}‏، أي ثم يخرج بالماء النازل من السماء، والنابع من الأرض ‏{‏زرعاً مختلفاً ألوانه‏}‏ أي أشكاله وطعومه، وروائحه ومنافعه، ‏{‏ثم يهيج‏}‏ أي بعد نضارته وشبابه يكتهل، فنراه مصفراً قد خالطه اليبس، ‏{‏ثم يجعله حطاماً‏}‏ أي ثم يعود يابساً يتحطم، ‏{‏إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب‏}‏ أي الذين يتذكرون بهذا، فيعتبرون إلى أن الدنيا هكذا تكون خضرة ناضرة حسناء، ثم تعود عجوزاً شوهاء، والشاب يعود شيخاً هرماً، كبيراً ضعيفاً، وبعد ذلك كله الموت، فالسعيد من كان حله بعده إلى خير، وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏أفمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نور من ربه‏}‏ أي هل يستوي هذا، ومن هو قاسي القلب بعيد من الحق‏؟‏ كقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها‏}‏‏؟‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للقاسية قلوبهم من ذكر اللّه‏}‏ أي فلا تلين عند ذكره، ولا تخشع ولا تعي ولا تفهم ‏{‏أولئك في ضلال مبين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏23‏)‏

‏{‏ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد ‏}‏

هذا مدح من اللّه عزَّ وجلَّ لكتابه القرآن العظيم المنزل على رسوله الكريم، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏اللّه نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يعني القرآن كله متشابه مثاني، وقال قتادة‏:‏ الآية تشبه الآية، والحرف يشبه الحرف، وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏مثاني‏}‏ ترديد القول ليفهموا عن ربهم تبارك وتعالى، وقال عبد الرحمن بن زيد‏:‏ ‏{‏مثاني‏}‏ مردَّد، ردد موسى في القرآن وصالح وهود والأنبياء عليهم الصلاة والسلام في أمكنة كثيرة، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏مثاني‏}‏ أي القرآن يشبه بعضه بعضاً، ويُرَدُّ بعضه على بعض، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر اللّه‏}‏ أي هذه صفة الأبرار، عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار، لما يفهمون منه من الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف، ‏{‏ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر اللّه‏}‏، لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه، فهم مخالفون لغيرهم من الفجار من وجوه‏:‏ أحدها أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات، وسماع أولئك نغمات الأبيات من أصوات القينات، الثاني أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن ‏{‏خروا سجداً وبكياً‏}‏ بأدب وخشية، ورجاء ومحبة، وفهم وعلم، كما قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏والذين إذا ذكِّروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً‏}‏ أي لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها بل مصغين إليها، ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم، الثالث أنهم يلزمون الأدب عند سماعها، كما كان الصحابة رضي اللّه عنهم عند سماعهم كلام اللّه تعالى تقشعر جلودهم، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر اللّه، لم يكونوا يتصارخون، بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك، تلا قتادة رحمه اللّه‏:‏ ‏{‏تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر اللّه‏}‏ قال‏:‏ هذا نعت أولياء اللّه، نعتهم اللّه عزَّ وجلَّ بأن تقشعر جلودهم وتبكي أعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر اللّه، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم، إنما هذا في أهل البدع، وهذا من الشيطان، وقال السدي‏:‏ ‏{‏إلى ذكر اللّه‏}‏ أي إلى وعد اللّه، وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك هدى اللّه يهدي به من يشاء من عباده‏}‏ أي هذه صفة من هداه اللّه، ومن كان على خلاف ذلك، فهو ممن أضله اللّه ‏{‏ومن يضلل اللّه فما له من هاد‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏24 ‏:‏ 26‏)‏

‏{‏ أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون ‏.‏ كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ‏.‏ فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة‏}‏ ويقرع فيقال له ولأمثاله من الظالمين‏:‏ ‏{‏ذوقوا ما كنتم تكسبون‏}‏ كمن يأتي آمناً يوم القيامة‏؟‏ كما قال اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم‏}‏‏؟‏ وقال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة‏}‏، واكتفى في هذه الآية بأحد القسمين عن الآخر، وقوله جلت عظمته‏:‏ ‏{‏كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون‏}‏ يعني القرون الماضية المكذبة للرسل أهلكهم اللّه بذنوبهم وما كان لهم من اللّه منواق، وقوله جلَّ وعلا ‏{‏فأذاقهم اللّه الخزي في الحياة الدنيا‏}‏ أي بما أنزل بهم من العذاب والنكال، وتشفي المؤمنين منهم، فليحذر المخاطبون من ذلك فإنهم قد كذبوا أشرف الرسل وخاتم الأنبياء صلى اللّه عليه وسلم، والذي أعده اللّه جلَّ جلاله لهم في الآخرة من العذاب الشديد، أعظم مما أصابهم في الدنيا، ولهذا قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏27 ‏:‏ 31‏)‏

‏{‏ ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون ‏.‏ قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ‏.‏ ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ‏.‏ إنك ميت وإنهم ميتون ‏.‏ ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل‏}‏ أي بينا للناس فيه بضرب الأمثال ‏{‏لعلهم يتذكَّرون‏}‏ فإن المثل يقرب المعنى إلى الأذهان كما قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون‏}‏، وقوله جلَّ وعلا‏:‏ ‏{‏قرآناً عربياً غير ذي عوج‏}‏ أي هو قرآن بلسان عربي مبين لا اعوجاج فيه، ولا انحراف ولا لبس، بل هو بيان ووضوح وبرهان، وإنما جعله اللّه تعالى كذلك، وأنزله بذلك ‏{‏لعلهم يتقون‏}‏ أي يحذورن ما فيه من الوعيد ويعملون بما فيه من الوعد، ثم قال‏:‏ ‏{‏ضرب اللّه مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون‏}‏ أي يتنازعون في ذلك العبد المشترك بيهم، ‏{‏ورجلاً سلماً‏}‏ أي سالماً ‏{‏لرجل‏}‏ أي خالصاً لا يملكه أحد غيره، ‏{‏هل يستويان مثلاً‏}‏‏؟‏ أي لا يستوي هذا وهذا، كذلك لا يستوي المشرك الذي يعبد آلهة مع اللّه، والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا اللّه وحده لا شريك له‏؟‏ فأين هذا من هذا‏؟‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ هذه الآية ضربت مثلاً للمشرك والمخلص، ولما كان هذا المثل ظاهراً بيناً جلياً قال‏:‏ ‏{‏الحمد للّه‏}‏ أي على إقامة الحجة عليهم ‏{‏بل أكثرهم لا يعلمون‏}‏ أي فلهذا يشركون باللّه، وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏إنك ميت وإنهم ميتون‏}‏ أي إنكم ستنقلون من هذه الدار لا محالة، وستجمعون عند اللّه تعالى في الدار الآخرة، وتختصمون فيما أنتم فيه من الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي اللّه عزَّ وجلَّ، فيفصل بينكم، ويفتح بالحق وهو الفتاح العليم، فينجي المؤمنين المخلصين الموحدين، ويعذب الكافرين الجاحدين المشركين المكذبين، ثم إن هذه الآية وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين، وذكر الخصومة بينهم في الدار الآخرة، فإنها شاملة لكل متنازعين في الدنيا، فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار الآخرة‏.‏ روي أنه لما نزلت ‏{‏ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون‏}‏ قال الزبير رضي اللّه عنه‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ أتكرر علينا الخصومة‏؟‏ قال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏، قال رضي اللّه عنه‏:‏ إن الأمر إذاً لشديد ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الترمذي والإمام أحمد وابن ماجه بزيادة فيه‏"‏، وعن الزبير بن العوام رضي اللّه عنه قال‏:‏ لما نزلت هذه السورة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏{‏إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون‏}‏، قال الزبير رضي اللّه عنه‏:‏ أي رسول اللّه، أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب‏؟‏ قال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه‏)‏ قال الزبير رضي اللّه عنه‏:‏ واللّه إن الأمر لشديد ‏"‏أخرجه الإمام أحمد ورواه الترمذي وقال‏:‏ حسن صحيح‏"‏‏.‏

وفي الحديث‏:‏ ‏(‏أول الخصمين يوم القيامة جاران‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر مرفوعاً‏"‏‏.‏ وفي المسند عن أبي ذر رضي اللّه عنه أنه قال‏:‏ رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شاتين ينتطحان، فقال‏:‏ ‏(‏أتدري فيم ينتطحان يا أبا ذر‏)‏، قلت‏:‏ لا، قال صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لكن اللّه يدري وسيحكم بينهما‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد أيضاً‏"‏‏.‏ وقال الحافظ أبو بكر البزار، عن أنَس رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يجاء بالإمام الجائر الخائن يوم القيامة فتخاصمه الرعيه، فيفلحون عليه، فيقال له‏:‏ سدّ ركناً من أركان جهنم‏)‏ ‏"‏رواه الحافظ البزار‏"‏‏.‏ وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما ‏{‏ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون‏}‏ يقول‏:‏ يخاصم الصادق الكاذب، والمظلوم الظالم، والمهتدي الضال، والضعيف المستكبر، وقد روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال‏:‏ يختصم الناس يوم القيامة حتى تختصم الروح مع الجسد، فتقول الروح للجسد‏:‏ أنت فعلت، ويقول الجسد للروح‏:‏ أنت أمرت، وأنت سولت، فيبعث اللّه تعالى ملكاً يفصل بينهما، فيقول لهما‏:‏ إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير، والآخر ضرير، دخلا بستاناً، فقال المقعد للضرير‏:‏ إني أرى ههنا ثماراً، ولكن لا أصل إليها، فقال له الضرير‏:‏ اركبني فتناوَلْها، فركبه فتناولها، فأيهما المعتدي‏؟‏ فيقولان كلاهما، فيقول لهما الملك‏:‏ فإنكما قد حكمتا على أنفسكما، يعني أن الجسد للروح كالمطية وهو راكبه ‏"‏رواه ابن منده في كتاب الروح ولم يشر له ابن كثير بضعف‏"‏، وروى ابن أبي حاتم، عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال‏:‏ نزلت هذه الآية وما يعلم في أي شيء نزلت‏:‏ ‏{‏ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون‏}‏ قال، قلنا‏:‏ من نخاصم‏؟‏ ليس بيننا وبين أهل الكتاب خصومة فمن نخاصم‏؟‏ حتى وقعت الفتنة، فقال ابن عمر رضي اللّه عنهما‏:‏ هذا الذي وعدنا ربنا عزَّ وجلَّ نختصم فيه ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم ورواه النسائي عن ابن عمر‏"‏، وقال أبو العالية‏:‏ ‏{‏ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون‏}‏ يعني أهل القبلة، وقال ابن زيد‏:‏ يعني أهل الإسلام وأهل الكفر، وقد قدمنا أن الصحيح العموم، واللّه سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏32 ‏:‏ 35‏)‏

‏{‏ فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين ‏.‏ والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ‏.‏ لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ‏.‏ ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ‏}‏

يقول عزَّ وجلَّ مخاطباً للمشركين الذين افتروا على اللّه، وجعلوا معه آلهة أُخرى، وادعوا أن الملائكة بنات اللّه، وجعلوا للّه ولداً - تعالى اللّه عن قولهم علواً كبيراً - ومع هذا فقد كذبوا بالحق إذ جاءهم على ألسنة رسل اللّه صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين، ولهذا قال اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏فمن أظلم ممن كذب على اللّه وكذّب بالصدق إذ جاءه‏}‏ أي لا أحد أظلم من هذا، لأنه جمع بين طرفي الباطل‏:‏ كذب على اللّه، وكذّب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال الباطل، ورد الحق، ولهذا قال جلت عظمته متوعداً لهم‏:‏ ‏{‏أليس في جهنم مثوى للكافرين‏}‏‏؟‏ وهم الجاحدون المكذبون، ثم قال جلَّ وعلا ‏{‏والذي جاء بالصدق وصدّق به‏}‏، قال مجاهد وقتادة‏:‏ ‏{‏الذي جاء بالصدق‏}‏ هو الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وقال السدي‏:‏ هو جبريل عليه السلام، ‏{‏وصدّق به‏}‏ يعني محمداً صلى اللّه عليه وسلم، وقال ابن عباس‏:‏ من جاء بلا إله إلا اللّه ‏{‏وصدّق به‏}‏ يعني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقيل‏:‏ أصحاب القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة، فيقولون‏:‏ هذا ما أعطيتمونا فعملنا فيه بما أمرتمونا، وهذا القول وهو رواية ليث عن مجاهد وهو اختيار ابن كثير يشمل كل المؤمنين، فإن المؤمنين يقولون الحق ويعملون به، والرسول صلى اللّه عليه وسلم أول الناس بالدخول في هذه الآية، فإنه جاء بالصدق وصدّق المرسلين، وآمن بما أنزل إليه من ربه، وقال ابن زيد‏:‏ ‏{‏والذي جاء بالصدق‏}‏ هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏{‏وصدّق به‏}‏ قال المسلمون ‏{‏أولئك هم المتقون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ اتقوا الشرك ‏{‏لهم ما يشاؤون عند ربهم‏}‏ يعني في الجنة، مهما طلبوا وجدوا ‏{‏ذلك جزاء المحسنين * ليكفر اللّه عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون‏}‏ كما قال عزَّ وجلَّ في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏36 ‏:‏ 40‏)‏

‏{‏ أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ‏.‏ ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ‏.‏ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون ‏.‏ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون ‏.‏ من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ‏}‏

يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏أليس اللّه بكاف عبده‏}‏ يعني أنه تعالى يكفي من عبده وتوكّل عليه، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏أفلح من هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافاً، وقنع به‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري مرفوعاً ورواه الترمذي والنسائي بنحوه‏"‏‏.‏ ‏{‏ويخوفونك بالذين من دونه‏}‏ يعني المشركين يخّوفون الرسول صلى اللّه عليه وسلم، ويتوعدونه بأصنامهم وآلهتهم، التي يدعونها من دون اللّه جهلاً منهم وضلالاً عن معمر قال‏:‏ قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنأمرنها فلتخبلنك، فنزلت‏:‏ ‏{‏ويخوفونك بالذين من دونه‏}‏، أخرجه عبد الرزاق كما في اللباب‏.‏ ، ولهذا قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ومن يضلل اللّه فما له من هاد * ومن يهد اللّه فما له من مضل أليس اللّه بعزيز ذي انتقام‏؟‏‏}‏ أي منيع الجناب لا يضام من استند إلى جنابه، ولجأ إلى بابه، فإنه العزيز الذي لا أعز منه، ولا أشد انتقاماً منه، فمن كفر به وأشرك، وعاند رسوله صلى اللّه عليه وسلم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن اللّه‏}‏ يعني المشركين كانوا يعترفون بأن اللّه عزَّ وجلَّ هو الخالق للأشياء كلها، ومع هذا يعبدون معه غيره، مما لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل أفرأيتم ما تدعون من دون اللّه إن أرادني اللّه بضر هل هن كاشفات ضره‏؟‏ أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته‏}‏‏؟‏ أي لا تستطيع شيئاً من الأمر، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏احفظ اللّه يحفظك، احفظ اللّه تجده تجاهك، تعرف إلى اللّه في الرخاء يعرفك في الشدة‏)‏ ‏"‏الحديث رواه ابن أبي حاتم والترمذي‏"‏الحديث‏.‏ ‏{‏قل حسبي اللّه‏}‏ أي اللّه كافي، ‏{‏عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون‏}‏، كما قال هود عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏إني توكلت على اللّه ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم‏}‏، عن ابن عباس رضي اللّه عنه قال‏:‏ ‏(‏من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه تعالى، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد اللّه عزَّ وجلَّ أوثق منه بما في يديه، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق اللّه عزَّ وجلَّ‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس مرفوعاً‏"‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا قوم اعملوا على مكانتكم‏}‏ أي على طريقتكم، وهذا تهديد ووعيد، ‏{‏إني عامل‏}‏ أي على طريقتي ومنهجي، ‏{‏فسوف تعلمون‏}‏ أي ستعلمون غبّ ذلك ووباله، ‏{‏من يأتيه عذاب يخزيه‏}‏ أي في الدنيا، ‏{‏ويحل عليه عذاب مقيم‏}‏ أي دائم مستمر، لا محيد له عنه، وذلك يوم القيامة، أعاذنا اللّه منها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏41 ‏:‏ 42‏)‏

‏{‏ إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل ‏.‏ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ‏}‏

يقول تعالى مخاطباً رسوله محمداً صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا عليك الكتاب‏}‏ يعني القرآن ‏{‏للناس بالحق‏}‏ أي لجميع الخلق من الإنس والجن، لتنذرهم به، ‏{‏فمن اهتدى فلنفسه‏}‏ أي فإنما يعود نفع ذلك إلى نفسه، ‏{‏ومن ضل فإنما يضل عليها‏}‏ أي إنما يرجع وبال ذلك على نفسه، ‏{‏وما أنت عليهم بوكيل‏}‏ أي بموكل أن يهتدوا، ‏{‏إنما أنت نذير‏}‏، ‏{‏إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب‏}‏، ثم قال تعالى مخبراً عن نفسه الكريمة بأنه المتصرف في الوجود بما يشاء، وأنه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى بما يرسل من الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان، والوفاة الصغرى عند المنام، كما قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار‏}‏ الآية، وقال‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون‏}‏، فذكر الوفاتين الصغرى ثم الكبرى، وفي هذه الآية ذكر الكبرى ثم الصغرى، ولهذا قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏اللّه يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى‏}‏، فيه دلالة على أنها تجتمع في الملأ الأعلى، كما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خَلَفه عليه، ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً‏"‏، وقال بعض السلف‏:‏ يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا، فتتعارف ما شاء اللّه أن تتعارف ‏{‏فيمسك التي قضى عليها الموت‏}‏ التي قد ماتت، ويرسل الأًخرى إلى أجل مسمى، قال السدي‏:‏ إلى بقية أجلها، وقال ابن عباس‏:‏ يمسك أنفس الأموات، ويرسل أنفس الأحياء، ولا يغلط ‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏43 ‏:‏ 45‏)‏

‏{‏ أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ‏.‏ قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون ‏.‏ وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون ‏}‏

يقول تعالى ذاماً للمشركين في اتخاذهم شفعاء من دون اللّه، وهم الأصنام والأنداد التي اتخذوها بلا دليل ولا برهان، وهي لا تملك شيئاً من الأمر، وليس لها عقل تعقل به، ولا سمع تسمع به، ولا بصر تبصر به، بل هي جمادات أسوأ حالاً من الحيوانات بكثير، ثم قال ‏{‏قل‏}‏ أي يا محمد لهؤلاء الزاعمين أن ما اتخذوه شفعاء لهم عند اللّه تعالى، أخبرهم أن الشفاعة لا تنفع عند اللّه إلا لمن ارتضاه وأذن له، فمرجعها كلها إليه ‏{‏من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه‏}‏، ‏{‏له ملك السماوات والأرض‏}‏ أي هو المتصرف في جميع ذلك، ‏{‏ثم إليه ترجعون‏}‏ أي يوم القيامة فيحكم بينكم بعدله ويجزي كلاً بعمله، ثم قال تعالى ذاماً للمشركين أيضاً‏:‏ ‏{‏وإذا ذكر اللّه وحده‏}‏ أي إذا قيل لا إله إلا اللّه وحده، ‏{‏اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏ قال مجاهد‏:‏ اشمأزت انقبضت، وقال السدي‏:‏ نفرت، وقال قتادة‏:‏ كفرت واستكبرت، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنهم كانوا إذا قيل لا إله إلا اللّه يستكبرون‏}‏ أي عن المتابعة والانقياد لها، فقلوبهم لا تقبل الخير، ومن لم يقبل الخير يقبل الشر، ولذلك قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ذكر الذين من دونه‏}‏ أي من الأصنام والأنداد ‏{‏إذا هم يستبشرون‏}‏ أي يفرحون ويسرون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏46 ‏:‏ 48‏)‏

‏{‏ قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ‏.‏ ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ‏.‏ وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ‏}‏

يقول تبارك وتعالى، بعد ما ذكر عن المشركين ما ذكر، من المذمة لهم في حبهم الشرك، ونفرتهم عن التوحيد ‏{‏قل اللهمَّ فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة‏}‏ أي ادع أنت اللّه وحده لا شريك له الذي خلق السماوات والأرض وفطرها، أي جعلها على غير مثال سبق، ‏{‏عالم الغيب والشهادة‏}‏ أي السر والعلانية، ‏{‏أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏ أي في دنياهم، ستفصل بينهم يوم معادهم ونشورهم وقيامهم من قبورهم، روى مسلم في صحيحه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال‏:‏ سألت عائشة رضي اللّه عنها بأي شيء كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل‏؟‏ قالت رضي اللّه عنها‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته‏:‏ ‏(‏اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم‏)‏ ‏"‏رواه مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها‏"‏‏.‏ وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قال‏:‏ اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الدنيا، أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك، فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهداً توفينيه يوم القيامة، إنك لا تخلف المعياد، إلا قال اللّه عزَّ وجلَّ لملائكته يوم القيامة‏:‏ إن عبدي قد عهد إليَّ عهداً فأوفوه إياه، فيدخله اللّه الجنة‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي اللّه عنه‏"‏‏.‏ وروى الإمام أحمد، عن أبي راشد الحبراني قال‏:‏ أتيت عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنهما فقلت له‏:‏ حدثنا ما سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فألقى بين يدي صحيفة فقال‏:‏ هذا ما كتب لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنظرت فيها، فإذا فيها أن أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه قال‏:‏ يا رسول اللّه علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت‏؟‏ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا أبا بكر، قل‏:‏ اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة لا إله إلا أنت رب كل شيء ومليكه، أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه، أن أقترف على نفسي سوءاً، أو أجره إلى مسلم‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد ورواه الترمذي وقال‏:‏ حسن غريب‏"‏، وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ولو أن للذين ظلموا‏}‏ وهم المشركون ‏{‏ما في الأرض جميعاً ومثله معه‏}‏ أي ولو أن جميع ما في الأرض وضعفه معه ‏{‏لافتدوا به من سوء العذاب‏}‏ أي الذي أوجبه اللّه تعالى لهم يوم القيامة، ومع هذا لا يقبل منهم الفداء ولو كان ملء الأرض ذهباً ‏{‏وبدا لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون‏}‏ أي وظهر لهم من اللّه العذاب والنكال بهم، ما لم يكن في بالهم ولا في حسابهم، ‏{‏وبدا لهم سيئات ما كسبوا‏}‏ أي وظهر لهم جزاء ما اكتسبوا في الدار الدنيا من المحارم والمآثم، ‏{‏وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون‏}‏ أي وأحاط بهم من العذاب والنكال ما كانوا يستهزئون به في الدار الدنيا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏49 ‏:‏ 52‏)‏

‏{‏ فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون ‏.‏ قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ‏.‏ فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين ‏.‏ أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ‏}‏

يقول تبارك وتعالى مخبراً عن الإنسان أنه في حال الضراء يتضرع إلى اللّه عزَّ وجلَّ، وينيب إليه ويدعوه، وإذا خوّله نعمة منه بغى وطغى، وقال‏:‏ ‏{‏إنما أوتيته على علم‏}‏ أي لما يعلم اللّه تعالى من استحقاقي له، ولولا أني عند اللّه خصيص لما خولني هذا، قال قتادة‏:‏ ‏{‏على علم عندي‏}‏ على خير عندي، قال اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏بل هي فتنة‏}‏ أي ليس الأمر كما زعم، بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع أم يعصي‏؟‏ مع علمنا المتقدم بذلك فهي ‏{‏فتنة‏}‏ أي اختبار ‏{‏ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏، فلهذا يقولون ويدعون ما يدعون، ‏{‏قد قالها الذين قبلهم‏}‏ أي قد قال هذه المقالة وادعى أن هذه الدعوى كثير ممن سلف من الأمم، ‏{‏فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون‏}‏ أي فما صح قولهم ولا نفعهم جمعهم وما كانوا يكسبون، ‏{‏فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء‏}‏ أي من المخاطبين ‏{‏سيصيبهم سئيات ما كسبوا‏}‏، أي كما أصاب أولئك ‏{‏وما هم بمعجزين‏}‏، كما قال تبارك وتعالى مخبراً عن قارون ‏{‏قال إنما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن اللّه قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون‏}‏‏؟‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين‏}‏، وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏أو لم يعلموا أن اللّه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏}‏ أي يوسعه على قوم ويضيقه على آخرين، ‏{‏إن في ذلك لقوم يؤمنون‏}‏ أي لعبراً وحججاً‏.‏

 الآية رقم ‏(‏53 ‏:‏ 59‏)‏

‏{‏ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ‏.‏ وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون ‏.‏ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ‏.‏ أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين ‏.‏ أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين ‏.‏ أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين ‏.‏ بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ‏}‏

هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن اللّه تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر، ولا يصح حمل هذه على غير توبة، لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا محمداً صلى اللّه عليه وسلم فقالوا‏:‏ إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل‏:‏ ‏{‏والذين لا يدعون مع اللّه إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم اللّه إلا بالحق ولا يزنون‏}‏، ونزل‏:‏ ‏{‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه‏}‏ ‏"‏أخرجه البخاري ورواه مسلم وأبو داود والنسائي‏"‏‏.‏ وعن ثوبان مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية ‏{‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم‏}‏‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد عن ثوبان رضي اللّه عنه‏"‏إلى آخر الآية‏.‏ وعن عمرو بن عنبسة رضي اللّه عنه قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم شيخ كبير يدعم على عصا له فقال‏:‏ يا رسول اللّه إن لي غدرات وفجرات، فهل يغفر لي‏؟‏ فقال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألست تشهد أن لا إله إلا اللّه‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ بلى، وأشهد أنك رسول اللّه، فقال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قد غفر لك غدراتك وفجراتك‏)‏ ‏"‏تفرد به أحمد من حديث عمرو بن عنبسة‏"‏‏.‏ وروى الإمام أحمد، عن أسماء بنت يزيد رضي اللّه عنها قالت‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرأ‏:‏ ‏{‏إنه عمل غير صالح‏}‏ وسمعته صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏{‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه إن اللّه يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم‏}‏ ‏"‏أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي‏"‏‏.‏

فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة، ولا يقنطن عبد من رحمة اللّه، وإن عظمت ذنوبه وكثرت، فإن باب الرحمة والتوبة واسع، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يعلموا أن اللّه هو يقبل التوبة عن عباده‏}‏، وقال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر اللّه يجد اللّه غفوراً رحيماً‏}‏، وقال جلَّ وعلا في حق المنافقين‏:‏ ‏{‏إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً * إلا الذين تابوا وأصلحوا‏}‏، وقال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا‏}‏ قال الحسن البصري رحمه اللّه‏:‏ انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، والآيات في هذا كثيرة جداً، وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حديث الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، ثم ندم وسأل عابداً من عباد بني إسرائيل هل له من توبة‏؟‏ فقال‏:‏ لا، فقتله وأكمل به مائة،

ثم سأل عالماً من علمائهم هل له من توبة‏؟‏ فقال‏:‏ ومن يحول بينك وبين التوبة‏؟‏ ثم أمره بالذهاب إلى قرية يعبد اللّه فيها فقصدها، فأتاه الموت في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأمر اللّه عزَّ وجلَّ أن يقيسوا ما بين الأرضيين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها، فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر فقبضته ملائكة الرحمة، هذا معنى الحديث، وقد كتبناه في موضع آخر بلفظه، وقال ابن عباس في قوله عزَّ وجلَّ ‏{‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم‏}‏ الآية، قال‏:‏ قد دعا اللّه تعالى إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو اللّه، ومن زعم أن المسيح هو ابن اللّه، ومن زعم أن عزيراً ابن اللّه، ومن زعم أن اللّه فقير، ومن زعم أن يد اللّه مغلولة، ومن زعم أن اللّه ثالث ثلاثة، يقول اللّه تعالى لهؤلاء‏:‏ ‏{‏أفلا يتوبون إلى اللّه ويستغفرونه واللّه غفور رحيم‏}‏‏.‏ ثم دعا إلى التوبة من هو أعظم قولاً من هؤلاء، من قال‏:‏ ‏{‏أنا ربكم الأعلى‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏ما علمت لكم من إله غيري‏}‏ قال ابن عباس رضي اللّه عنهما‏:‏ من من آيس عباد اللّه من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب اللّه عزَّ وجلَّ، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب اللّه عليه، وروى الطبراني عن ابن مسعود قال‏:‏ إن أعظم آية في كتاب اللّه ‏{‏اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏ وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر ‏{‏إن اللّه يأمر بالعدل والإحسان‏}‏، وإن أكثر آية في القرآن فرحاً ‏{‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه‏}‏، وإن أشد آية في كتاب اللّه تفويضاً‏:‏ ‏{‏ومن يتق اللّه يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب‏}‏ ‏"‏رواه الطبراني عن ابن مسعود موقوفاً‏"‏‏.‏ ومرَّ عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه على قاصٍّ وهو يذكر الناس، فقال‏:‏ يا مذكر لِمَ تقنطِ الناسَ من رحمة اللّه‏؟‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه‏}‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود أيضاً‏"‏‏.‏

ذكر  أحاديث فيها نفي القنوط ‏.‏

عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتم اللّه تعالى لغفر لكم، والذي نفس محمد بيده لو لم تخطئوا لجاء اللّه عزَّ وجلَّ بقوم يخطئون ثم يستغفرون فيغفر لهم‏)‏ ‏"‏تفرد به الإمام أحمد من حديث أَنَس بن مالك‏"‏، وعن أبي أيوب الأنصاري رضي اللّه عنه أنه قال حين حضرته الوفاة‏:‏ قد كنت كتمت منكم شيئاً سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لولا أنكم تذنبون لخلق اللّه عزَّ وجلَّ قوماً يذنبون فيغفر لهم‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد ورواه مسلم والترمذي‏"‏، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كفارة الذنب الندامة‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد عن ابن عباس موقوفاً‏"‏، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو لم تذنبوا لجاء اللّه تعالى بقوم يذنبون فيغفر لهم‏)‏ ‏"‏تفرد به الإمام أحمد‏"‏‏.‏ ثم استحث تبارك وتعالى عباده إلى المسارعة إلى التوبة، فقال‏:‏ ‏{‏وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له‏}‏ الخ، أي ارجعوا إلى اللّه واستسلموا له ‏{‏من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون‏}‏ أي بادروا بالتوبة والعمل الصالح قبل حلول النقمة، ‏{‏واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم‏}‏ وهو القرآن العظيم ‏{‏من قبل أن يأتيكم العذابُ بغتةً وأنتم لا تشعرون‏}‏ أي من حيث لا تعلمون ولا تشعرون، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب اللّه‏}‏ أي يوم القيامة يتحسر المجرم المفرط في التوبة والإنابة ويود لو كان من المحسنين المخلصين المطيعين للّه عزَّ وجلَّ، وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وإن كنت لمن الساخرين‏}‏ أي إنما كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزئ غير موقن مصدق، ‏{‏أو تقول لو أن اللّه هداني لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين‏}‏ أي تود لو أعيدت إلى الدنيا لتحسن العمل، قال ابن عباس‏:‏ أخبر اللّه سبحانه وتعالى ما العباد قائلون قبل أن يقولوه، وعملهم قبل أن يعملوه، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا ينبئك مثل خبير‏}‏، ‏{‏أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب اللّه وإن كنت لمن الساخرين * أو تقول لو أن اللّه هداني لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين‏}‏ فأخبر اللّه عزَّ وجلَّ أن لو ردوا لما قدروا على الهدى فقال‏:‏ ‏{‏ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون‏}‏، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏كل أهل النار يرى مقعده من الجنة، فيقول‏:‏ لو أن اللّه هداني فتكون عليه حسرة، قال‏:‏ وكل أهل الجنة يرى مقعده من النار، فيقول‏:‏ لولا أن هداني اللّه قال‏:‏ فيكون له الشكر‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد والنسائي عن أبي هريرة مرفوعاً‏"‏، ولما تمنى أهل الجرائم العود إلى الدنيا، وتحسروا على تصديق آيات اللّه واتباع رسله، قال اللّه سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين‏}‏ أي قد جاءتك أيها العبد النادم آياتي في الدار الدنيا وقامت حججي عليك فكذبت بها واستكبرت عن اتباعها وكنت من الكافرين بها الجاحدين لها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏60 ‏:‏ 61‏)‏

‏{‏ ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ‏.‏ وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ‏}‏

يخبر تعالى عن يوم القيامة أنه تسود فيه وجوه وتبيض فيه وجوه، تسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف، وتبيض وجوه أهل السنة والجماعة، قال تعالى ‏{‏ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على اللّه‏}‏ أي في دعواهم له شريكاً وولداً، ‏{‏وجوههم مسودة‏}‏ أي بكذبهم وافترائهم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أليس في جهنم مثوى للمتكبرين‏}‏‏؟‏ أي أليست جهنم كافية سجناً وموئلاً، لهم فيها الخزي والهوان بسبب تكبرهم عن الانقياد للحق‏؟‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن المتكبرين يحشرون يوم القيامة أشباه الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار، حتى يدخلوا سجناً من النار في واد يقال له بولس من نار الأنيار، ويسقون من عصارة أهل النار ومن طينة الخبال‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً‏"‏، وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وينجي اللّه الذين اتقوا بمفازتهم‏}‏ أي بما سبق لهم من السعادة والفوز عند اللّه، ‏{‏لا يمسهم السوء‏}‏ أي يوم القيامة ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ أي ولا يحزنهم الفزع الأكبر، بل هو آمنون من كل فزع، مزحزحون عن كل شر، نائلون كل خير‏.‏

 الآية رقم ‏(‏62 ‏:‏ 66‏)‏

‏{‏ الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ‏.‏ له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون ‏.‏ قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ‏.‏ ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ‏.‏ بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ‏}‏

يخبر تعالى أنه خالق الأشياء كلها وربها وملكيها والمتصرف فيها، وكلٌ تحت تدبيره وقهره وكلاءته، قال مجاهد‏:‏ المقاليد هي المفاتيح بالفارسية، وقال السدي‏:‏ ‏{‏له مقاليد السماوات والأرض‏}‏ أي خزائن السماوات والأرض، والمعنى على كلا القولين أن أزمَّة الأمور بيده تبارك وتعالى له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ولهذا قال جلَّ وعلا‏:‏ ‏{‏والذين كفروا بآيات اللّه‏}‏ أي حججه وبراهينه ‏{‏أولئك هم الخاسرون‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أفغير اللّه تأمروني أعبد أيها الجاهلون‏}‏‏؟‏ ذكروا في سبب نزولها أن المشركين من جهلهم دعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى عبادة آلهتهم ويعبدوا معه إلهه فنزلت‏:‏ ‏{‏قل أفغير اللّه تأمروني أعبد أيها الجاهلون‏؟‏ ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين‏}‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما‏"‏وهذه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون‏}‏، وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏بل اللّه فاعبد وكن من الشاكرين‏}‏ أي اخلص العبادة للّه وحده لا شريك له أنت ومن اتبعك وصدقك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏67‏)‏

‏{‏ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ‏}

يقول تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وما قدروا اللّه حق قدره‏}‏ أي ما قدر المشركون اللّه حق قدره حين عبدوا معه غيره وهو العظيم القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قدره وقدرته، قال مجاهد‏:‏ نزلت في قريش، وقال السدي‏:‏ ما عظموه حق تعظيمه، وقال محمد بن كعب‏:‏ لو قدروه حق قدره ما كذبوا، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏وما قدروا الّله حق قدره‏}‏ هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة اللّه عليهم، فمن آمن أن اللّه على كل شيء قدير فقد قدر اللّه حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر اللّه حق قدره، وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية الكريمة، والطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف، قال البخاري‏:‏ قوله تعالى ‏{‏وما قدروا اللّه حق قدره‏}‏، عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال‏:‏ جاء حَبْر من الأحبار إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ يا محمد إنا نجد أن اللّه عزَّ وجلَّ يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول‏:‏ أنا الملك‏.‏ فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وما قدروا اللّه حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة‏}‏ الآية ‏"‏أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي‏"‏، وروى الإمام أحمد، عن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم من أهل الكتاب فقال‏:‏ يا أبا القاسم، أبلغك أن اللّه تعالى يحمل الخلائق على إصبع، والسماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، قال فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى بدت نواجذه، قال‏:‏ وأنزل اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وما قدروا اللّه حق قدره‏}‏ إلى آخر الآية ‏"‏أخرجه أحمد ورواه البخاري ومسلم والنسائي‏"‏‏.‏ وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏يقبض اللّه تعالى الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول‏:‏ أنا الملك أين ملوك الأرض‏؟‏‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري‏"‏‏.‏ وعن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال‏:‏ إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قرأ هذه الآيات ذات يوم على المنبر‏:‏ ‏{‏وما قدروا اللّه حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون‏}‏، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر‏:‏ يمجد الرب نفسه أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم‏)‏، فرجف برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المنبر حتى قلنا‏:‏ ليخرنَّ به ‏"‏أخرجه أحمد ومسلم

والنسائي وابن ماجه‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏68 ‏:‏ 70‏)‏

‏{‏ ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ‏.‏ وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم وهم لا يظلمون ‏.‏ ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون ‏}‏

يقول تبارك وتعالى مخبراً عن هول يوم القيامة وما يكون فيه من الآيات العظيمة والزلازل الهائلة، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء اللّه‏}‏ هذه النفخة هي الثانية وهي نفخة الصعق وهي التي يموت بها الأحياء من أهل السماوات والأرض إلا من شاء اللّه، كما جاء مصرحاً به مفسراً في حديث الصور المشهور، ثم يقبض أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، وينفرد الحي القيوم الذي كان أولاً، وهو الباقي آخراً بالديموية والبقاء، ويقول‏:‏ ‏{‏لمن الملك اليوم‏}‏‏؟‏ ثلاث مرات، ثم يجيب نفسه بنفسه فيقول‏:‏ ‏{‏للّه الواحد القهار‏}‏ أنا الذي كنت وحدي، وقد قهرت كل شيء، وحكمت بالفناء على كل شيء، ثم يحيي أول من يحيي إسرافيل، ويأمره أن ينفخ بالصور أُخرى وهي النفخة الثالثة نفخة البعث قال اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏ثم نفخ فيه أُخرى فإذا هم قيام ينظرون‏}‏ أي أحياء بعد ما كانوا عظاماً ورفاتاً صاروا أحياء ينظرون إلى أهوال يوم القيامة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذ أنتم تخرجون‏}‏‏.‏روى الإمام أحمد، عن عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنهما، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يخرج الدجال في أمتي فيمكث فيهم أربعين - لا أدري أربعين يوماً، أو أربعين شهراً، أو أربعين عاماً، أو أربعين ليلة الشك من الراوي وليس من لفظ النبوة فتنبه - فيبعث اللّه تعالى عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام كأنه عروة بن مسعود الثقفي ، فيظهر فيهلكه اللّه تعالى، ثم يلبث الناس بعده سنين سبعاً ليس بين اثنين عدواة، ثم يرسل اللّه تعالى ريحاً باردة من قبل الشام، فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، إنَّ أحدهم لو كان في كبد جبل لدخلت عليه‏)‏، قال‏:‏ سمعتها من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ويبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، قال فيتمثل لهم الشيطان فيقول‏:‏ ألا تستجيبون‏؟‏ فيأمرهم بعبادة الأوثان فيعبدونها، وهم في ذلك دارةٌ أرزاقهم، حسنٌ عشيهم، ثم ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً، وأول من يسمعه رجل يلوط حوضه فيصعق، ثم لا يبقى أحد إلا صعق، ثم يرسل اللّه تعالى - أو ينزل اللّه عزّ وجلَّ - مطراً كأنه الطل أو الظل - شك نعمان - فتنبت منه الناس، ثم ينفخ أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال‏:‏ أيها الناس هلموا إلى ربكم ‏{‏وقفوهم إنهم مسؤولون‏}‏ قال، ثم يقال‏:‏ أخرجوا بعث النار، فيقال‏:‏ كم‏؟‏ فيقال‏:‏ من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فيومئذ تبعث الولدان شيباً ويومئذ يكشف عن ساق‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد ورواه مسلم في صحيحه واللفظ له‏"‏‏.‏ وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما بين النفختين أربعون‏)‏، قالوا‏:‏ يا أبا هريرة أربعون يوماً‏؟‏ قال رضي اللّه تعالى عنه‏:‏ أبيت، قالوا‏:‏ أربعون سنة‏؟‏ قال‏:‏ أبيت، قالوا‏:‏ أربعون شهراً‏؟‏ قال‏:‏ أبيت، ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عَجْب ذنبه فيه يركب الخلق ‏"‏أخرجه البخاري عن أبي هريرة، وعجب الذنب‏:‏ العصعص‏"‏‏.‏

وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وأشرقت الأرض بنور ربها‏}‏ أي أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق جلَّ وعلا للخلائق لفصل القضاء، ‏{‏ووضع الكتاب‏}‏ قال قتادة‏:‏ كتاب الأعمال، ‏{‏وجيء بالنبيين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يشهدون على الأمم بأنهم بلغوهم رسالات اللّه إليهم، ‏{‏والشهداء‏}‏ أي الشهداء من الملائكة الحفظة على أعمال العباد من خير وشر، ‏{‏وقضي بينهم بالحق‏}‏ أي بالعدل، ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين‏}‏، وقال جلَّ وعلا‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يظلم مثقال ذرة‏}‏، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ووفيت كل نفس ما عملت‏}‏ أي من خير أو شر، ‏{‏وهو أعلم بما يفعلون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏71 ‏:‏ 72‏)‏

‏{‏ وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين ‏.‏ قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين ‏}‏

يخبر تعالى عن حال الأشقياء الكفار، كيف يساقون إلى النار سوقاً عنيفاً، بزجر وتهديد ووعيد، كما قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏يوم يُدَعّون إلى نار جهنم دعّاً‏}‏ أي يدفعون إليها دفعاً وهم عطاش ظماء، كما قال جلَّ وعلا في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً * ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً‏}‏، وهم في تلك الحال صم وبكم وعمي، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيراً‏}‏، وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها‏}‏ أي بمجرد وصولهم إليها فتحت لهم أبوابها سريعاً لتعجل لهم العقوبة، ثم يقول لهم خزنتها من الزبانية، الذين هم غلاظ الأخلاق شداد القوى، على وجه التقريع والتوبيخ والتنكيل‏:‏ ‏{‏ألم يأتكم رسل منكم‏}‏‏؟‏ أي من جنسكم تتمكون من مخاطبتهم والأخذ عنهم، ‏{‏يتلون عليكم آيات ربكم‏}‏ أي يقيمون عليكم الحجج والبراهين على صحة ما دعوكم إليه، ‏{‏وينذرونكم لقاء يومكم هذا‏}‏ أي ويحذرونكم من شر هذا اليوم، فيقول الكفار لهم‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ أي قد جاءونا وأنذرونا وأقاموا علينا الحجج والبراهين، ‏{‏ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين‏}‏ أي ولكن كذبناهم وخالفناهم لما سبق لنا من الشقوة، كما قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزّل اللّه من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير‏}‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها‏}‏ لم يسند هذا القول إلى قائل معين بل أطلقه ليدل على أن الكون شاهد عليهم بأنهم يستحقون ما هم فيه، بما حكم العدل الخبير عليهم به، ولهذا قال جلَّ وعلا‏:‏ ‏{‏قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها‏}‏ أي ماكثين فيها لا خروج لكم منها ولا زوال لكم عنها، ‏{‏فبئس مثوى المتكبرين‏}‏ أي فبئس المصير وبئس المقيل لكم بسبب تكبركم في الدنيا وإبائكم عن اتباع الحق، فبئس الحال وبئس المآل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏73 ‏:‏ 74‏)‏

‏{‏ وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ‏.‏ وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين ‏}‏

وهذا إخبار عن حال السعداء المؤمنين، حين يساقون على النجائب وفداً إلى الجنة، ‏{‏زمراً‏}‏ أي جماعة بعد جماعة، المقربون ثم الأبرار، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كل طائفة مع من يناسبهم‏:‏ الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع أشكالهم، والعلماء مع أقرانهم، وكل صنف مع صنف، وكل زمرة تناسب بعضها بعضاً‏.‏ ‏{‏حتى إذا جاؤوها‏}‏ أي وصلوا إلى أبواب الجنة بعد مجاوزة الصراط، حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذَّبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس رضي اللّه

عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا أول شفيع في الجنة‏)‏؛ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏وأنا أول من يقرع باب الجنة‏)‏ ‏"‏أخرجه مسلم عن أنَس مرفوعاً‏"‏‏.‏ وروى الإمام أحمد عن أنَس بن مالك رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏آتي باب الجنة يوم القيامة، فأستفتح، فيقول الخازن‏:‏ من أنت‏؟‏ فأقول‏:‏ محمد - قال - فيقول‏:‏ بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد ورواه مسلم بنحوه‏"‏، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ولا يمتخطون فيها ولا يتفلون فيها، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة ومجامرهم الأَلُوَّة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب واحد يسبِّحون اللّه تعالى بكرة وعشياً‏)‏ ‏"‏أخرجه مسلم والإمام أحمد‏"‏‏.‏ وروى الحافظ أبو يعلى، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلتون‏؟‏‏؟‏ ولا يتمخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الأَلُوَّة الألوة‏:‏ العود الذي يتبخر به ، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء‏)‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين‏}‏ لم يذكر الجواب ههنا، وتقديره‏:‏ إذا كان هذا سعدوا وطابوا وسروا وفرحوا بقدر كل ما يكون لهم فيه نعيم، وإذا حذف الجواب ههنا ذهب الذهن كل مذهب في الرجاء والأمل، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أنفق زوجين من ماله في سبيل اللّه تعالى دعي من أبواب الجنة وللجنة أبواب، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريّان‏)‏، فقال أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ ما على أحد من ضرورة دعي من أيها دعي، فهل يدعى منها كلها أحد يا رسول اللّه‏؟‏ قال صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نعم وأرجو أن تكون منهم‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد ورواه البخاري ومسلم من حديث الزهري بنحوه‏"‏، وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول‏:‏ أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء‏)‏، وعن معاذ رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مفتاح الجنة لا إله إلا اللّه‏)‏ ‏"‏أخرجه مسلم في صحيحه عن معاذ رضي اللّه عنه‏"‏‏.‏

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه في حديث الشفاعة الطويل‏:‏ ‏(‏فيقول اللّه تعالى‏:‏ يا محمد أدخل من لا حساب عليه من أمتك من الباب الأيمن، وهم شركاء الناس في الأبواب الأخر، والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة ما بين عضادتي الباب لكما بين مكة أو هجر - وهجر مكة - وفي رواية - مكة وبصرى ‏"‏أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً‏"‏، وفي صحيح مسلم عن عتبة بن غزوان أنه خطبهم خطبة فقال فيها، ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام ‏"‏أخرجه مسلم في صحيحه‏"‏، وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وقال لهم خزنتها سلام

عليكم طبتم‏}‏ أي طابت أعمالكم وأقوالكم وطاب سعيكم وجزاؤكم، وقوله‏:‏ ‏{‏فادخلوها خالدين‏}‏ أي ماكثين فيها أبداً لا يبغون عنها حولاً، ‏{‏وقالوا الحمد للّه الذي صدقنا وعده‏}‏ أي يقول المؤمنون إذا عاينوا في الجنة ذلك الثواب الوافر، والعطاء العظيم، والنعيم المقيم والملك الكبير يقولون عند ذلك‏:‏ ‏{‏الحمد للّه الذي صدقنا وعده‏}‏ أي الذي كان وعدنا على ألسنة رسله الكرام كما دعوا في الدنيا ‏{‏ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف المعياد‏}‏، ‏{‏وقالوا الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن وإن ربنا لغفور شكور * الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين‏}‏‏.‏ قال أبو العالية وقتادة والسدي‏:‏ أي أرض الجنة، فهذه الآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون‏}‏، ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏نتبوأ من الجنة حيث نشاء‏}‏ أي أين شئنا حللنا فنعم الأجر أجرنا على عملنا‏.‏ وفي الصحيحين عن أنَس رضي اللّه عنه في قصة المعراج قال النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ الجنابذ‏:‏ ما ارتفع من الأرض وغيرها والمراد عقود اللؤلؤ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك‏)‏، وعن أبي سعيد رضي اللّه عنه قال‏:‏ إن ابن صائد سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن تربة الجنة فقال‏:‏ ‏(‏درمكة بيضاء مسك خالص‏)‏ ‏"‏أخرجه مسلم وعبد بن حميد‏.‏ الدرمك‏:‏ التراب الناعم‏"‏‏.‏

وروى ابن أبي حاتم، عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً‏}‏ قال‏:‏ سيقوا حتى انتهوا إلى باب من أبواب الجنة، فوجدوا عندها شجرة يخرج من تحت ساقها عينان، فعمدوا إلى أحداهما فتطهروا منها، فجرت عليهم نضرة النعيم، فلم تغير أبشارهم بعدها أبداً، ولم تشعث أشعارهم بعدها أبداً، فإنما دهنوا بالدهان ثم عمدوا إلى الأُخْرى، كأنما أمروا بها فشربوا منها فأذهب ما كان في بطونهم من أذى أو قذى، وتلقتهم الملائكة على أبواب الجنة‏:‏ ‏{‏سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين‏}‏، وتلقى كل غلمان صاحبهم يطوفون به فعل الولدان بالحميم جاء من الغيبة، أبشر قد أعد اللّه لك من الكرامة كذا وكذا، قد أعد اللّه لك من الكرامة كذا وكذا، قال‏:‏ وينطلق غلام من غلمانه إلى أزواجه من الحور العين، فيقول‏:‏ هذا فلان باسمه في الدنيا، فيقلن‏:‏ أنت رأيته، فيقول نعم، فيستخفهن الفرح حتى تخرج إلى أسكفة الباب، قال‏:‏ فيجيء فإذا هو بنمارق مصفوفة وأكواب موضوعة وزرابي مبثوثة، قال، ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه، فإذا هو قد أسس على جندل اللؤلؤ بين أحمر وأخضر وأصفر وأبيض، ومن كل لون ثم يرفع طرفه إلى سقفه، فلولا أن اللّه تعالى قدره له لألم أن يذهب ببصره إنه لمثل البرق، ثم ينظر إلى أزواجه من الحور العين، ثم يتكئ إلى أريكة من أرائكه ثم يقول‏:‏ ‏{‏الحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنا نهتدي لولا أن هدانا اللّه‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏75‏)‏

‏{‏ وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ‏}‏

لما ذكر تعالى حكمه في أهل الجنة والنار، وأنه نزّل كلا في المحل الذي يليق به ويصلح له، وهو العادل في ذلك الذي لا يجور، أخبر عن ملائكته أنهم محدقون من حول العرش المجيد، يسبحون بحمد ربهم ويمجدونه، ويعظمونه ويقدسونه وينزهونه عن النقائص والجور، وقد فصل القضية وقضى الأمر وحكم بالعدل، ولهذا قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وقضي بينهم‏}‏ أي بين الخلائق ‏{‏بالحق‏}‏، ثم قال ‏{‏وقيل الحمد للّه رب العالمين‏}‏ أي نطق الكون أجمعه، ناطقه وبهيمه، للّه رب العالمين بالحمد في حكمه وعدله، ولهذا لم يسند القول إلى قائل بل أطلقه، فدل على أن جميع المخلوقات شهدت له بالحمد‏.‏ قال قتادة‏:‏ افتتح الخلق بالحمد في قوله‏:‏ ‏{‏الحمد للّه الذي خلق السماوات والأرض‏}‏، وأختتم بالحمد في قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد للّه رب العالمين‏}‏‏.‏